0 Commentaires
الرؤية البيئية ضمن نموذج تنموي مستدام
شهد المغرب بفضل تضافر جهود مختلف الفاعلين تحولات هيكلية هامة، من حيث وتيرتها ونوعيتها، مما مكنه من الانتقال إلى عتبة جديدة في النمو.
وتجلت مظاهر هذه التحولات في تسارع وثيرة النمو الديموغرافي والتعمير وارتفاع أمد الحياة، وعرفت السوق الداخلية انفتاحا تدريجيا. إلى جانب ذلك عزز المغرب مكانته كوجهة إقليمية لجلب الاستثمار الأجنبي المباشر، وكقطب للأمن والاستقرار باعتراف المجموعة الدولية.
فعلى مستوى العمل الاجتماعي والتضامني، أدرجت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية العنصر البشري في صميم النموذج التنموي الوطني، وقدمت دفعة قوية للجهود المبذولة من أجل تدارك التأخر المسجل في بعض المجالات الاجتماعية، من قبيل تعميم الولوج إلى التعليم، والولوج إلى الماء الصالح للشرب والكهرباء، بالإضافة إلى فك العزلة عن العديد من المناطق القروية.
وعلى المستوى الاقتصادي، فقد سجل المغرب مستويات ايجابية من النمو، كما عمل نسبيا إلى تنويع بنيته الإنتاجية والارتقاء ببعض القطاعات بفضل السياسات القطاعية المعتمدة التي مكنت من دعم وإعطاء دفعة للعديد من المشاريع الكبرى المهيكلة مكنت من انجاز بنيات تحتية كبرى، عززت بروز أقطاب تنموية جهوية من قبيل مناء طنجة المتوسط...، وهو ما جعل المغرب يعمل على تعزيز انفتاحه الاقتصادي بتوقيع العديد من اتفاقيات التبادل الحر، وتعزيز التعاون مع بلدان دول الخليج والتعاون جنوب جنوب مع دول القارة الأفريقية.
أما فيما يخص الاستدامة، فقد وضعت المملكة المغربية إطارا تشريعيا عصريا في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة، وذلك من خلال التنصيص في دستور2011 على حق المواطنات والمواطنين في العيش في بيئة سلمية، وعبر اعتماد القانون الإطار بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة، بالإضافة إلى وضع العديد من القوانين والاستراتيجيات التي تشمل عدة ميادين: الماء، الطاقة، التصدي للتغيرات المناخية، الغابات، المناطق المحمية، جودة الهواء، النفايات الصلبة، حماية الساحل، إلخ...
وفي هذا الإطار، اعتمد المغرب قبل ذلك سياسة للانتقال الطاقي تهدف إلى رفع قدرته على إنتاج الكهرباء انطلاقا من مصادر متجددة إلى 42 في المائة من الطاقة الإجمالية، سنة 2020، و52 في المائة سنة 2030.
وقد مكنت الإستراتيجية الوطنية في مجال الطاقة، التي وضعها المغرب سنة 2009، من تطوير عدد كبير من المشاريع الطاقية، لاسيما في مجال الطاقة الشمسية والريحية والطاقة الكهرومائية دفعت بالمغرب إلى تطوير خبرة حقيقية في هذا المجال.
وبفضل هذه الإصلاحات، تمكن المغرب من تحقيق تقدُّم على مستوى الاستقرار والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهو تقدم جرى تعزيزه على المستوى المؤسساتي باعتماد دستور جديد، أكد فيه المغرب الخيار الديمقراطي الذي ارتضاه خيارا لا رجعة فيه، مكرسا في هذا الصدد، الجيل الجديد لحقوق الإنسان الفردية والجماعية، وموليا بالغ الاهتمام للجهوية المتقدمة، ومدمجا الخصوصيات الثقافية للأمة في تنوع مكوناتها.
لكن، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من حجم الجهود المبذولة والإصلاحات المنجزة، لا تزال هناك نواقص ذات طابع بنيوي، لاسيما على مستوى الفوارق الاجتماعية والمجالية، وبطالة الشباب والنساء، وجودة التعليم، ومردودية الاستثمار، ومجال الحكامة الجيدة والثقة في المؤسسات.
هذا الأمر الذي جعل الملك محمد السادس خلال ترؤسه لافتتاح السنة التشريعية 2017، يعلن رسميا انتهاء صلاحية النموذج التنموي الحالي، داعيا إلى البحث عن نموذج تنموي جديد، حيث قال: [...] إذا كان المغرب حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية".
كما دعا الملك إلى "تسمية الأمور بمسمياتها دون مجاملة أو تنميق واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي".
إن خطاب الملك حول "النموذج التنموي الجديد" فتح نقاشا واسعا حول شكل التنمية الاجتماعية والاقتصادية ببلادنا، إذ أصبح التفكير في نموذج تنموي جديد من صلب أولويات كل الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين وكذا الباحثين، وفي غمرة النقاش المجتمعي حول هذا النموذج، لابد من البحث عن مدى حضور الرؤية البيئية في مختلف مراحل الإعداد والمقترحات والتوصيات في اتجاه تبني مقاربة شمولية لإنجاح النموذج التنموي الجديد.
وارتكازا على المؤهلات والمنجزات المشار إليها، يحق للمغرب أن يطمح إلى تحقيق مستوى أعلى من التنمية وبما أن النظر في المستقبل لابد من أن يرتكز على رؤية واضحة للواقع الذي سيبنى المستقبل على تعميق إيجابياته والحد من سلبياته ، ومن يعتقد أن الاقتصاد يمكن أن يضمن استمرار استقراره بشكل طويل، يعتبر مجانبًا للصواب، ذلك أن كل الاقتصاد كيفما كان مذهبه وتوجهه يمر بأزمات قد تكون اجتماعية أو مالية أو نقدية، وقد تكون ظرفية أو دائمة، كما قد تكون متجاوزة أو حادة، وهو ما يستدعي البحث عن أساليب لفهمها وبيان علاقتها بالتقلبات الاقتصادية الدورية أو ما يعرف بدورات الأعمال الملازمة للاقتصاد.وتعرف مجتمعات واقتصاديات القرن الواحد والعشرين تحولات نوعية كبرى على المستوى المؤسساتي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي، وتتطور هذه التحولات في ظل نماذج تنموية تشهد تفككا متسارعًا، استنفذت بفعله إمكاناتها في تحقيق التوازنات الكبرى على أكثر من صعيد، لدى يتجه التفكير الآن نحو وضع أجيال جديدة من نماذج النمو والتنمية، والمغرب كغيره من العديد من بلدان العالم أصبحت لديه قناعة راسخة مفادها أن النموذج التنموي الحالي لم يعد قادرا على العطاء والتجدد، وعاجزا عن الاستجابة لمتطلبات الاندماج الاجتماعي في غياب الانسجام بين مختلف مكونات النظام الاقتصادي.
في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تتركز جهود الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، والمؤسسات الدولية والإقليمية، على ابتكار أجيال جديدة من نماذج النمو والتنمية، عنوانها التوفيق بين النجاعة الاقتصادية والإنصاف الاجتماعي والتوزيع المنصف للثروة، والاستدامة، إلى جانب إشاعة قيم العدالة والحرية والكرامة. وهي أطروحات متعددة حول نظريات التنمية تؤكد عدم إمكانية تحقيق الكونية، وأن نظرية التنمية لابد أن تستجيب للاحتياجات المحلية، وأن تتيح الفرصة لظهور نماذج مختلفة للتنمية، وفي هذا السياق تم التأكيد على عدم إمكانية إيجاد بديل عام للتنمية أو بديل كلي يحل محلها يكون قابلا للتطبيق في كل زمان ومكان،بالمقابل لابد أن يتجه التفكير بشكل جدي نحو صيغ جديدة تقوم على النماذج المتعددة وعلى ربط التنمية بالقيم، وأن يتم تحديد التنمية في إطار القيم الخاصة بالمجتمع وذلك للخروج من الخطية والوضعية والتغريب، حيث يجب التفكير في القضية على المستوى الوطني باعتبار أن التنمية أولا وقبل كل شيء، تبقى ظاهرة ذاتية تعتمد بالأساس على المجهود الوطني. وتهم تحول فكر المجتمع كله أو غالبيته، نحو تصورات علمية من شأنها أن تجعل تحقيق هذه الإنجازات أمرا طبيعيا، لأنها نابعة من إيمان المجتمع نفسه بهذه التصورات، ومن تم فالتأسيس لنموذج تنموي جديد يعني بالضرورة إعادة تأسيس مفهومنا العلمي لطبيعة علاقاتنا المجتمعية والمادية، بحيث يقوم هذا المفهوم على أساس التصورات العلمية المعاصرة وعلى أساس الاتساق مع النظرة للعالم، بحيث يجب التفكير في القضية وطنيا دون أن ننسى أنه مقيد بعلاقات دولية وبالرتبة التي يحتلها البلد في النظام الدولي. ودون السقوط في إعادة تكريس التجارب التنموية السابقة التي كرست نوعا مشوها من التنمية سمته الأساسية هي تنمية الفوارق، فالمسافة التي تفصل حضاريا بين المدينة والأرياف، بين الأغنياء والفقراء، بين النخبة العصرية والنخبة التقليدية، بين الموقف الحداثي والموقف التراثي ...إلخ، لا تزداد إلا اتساعا وعمقا.
ولا يمكن إصلاح الحداثة ضمن نسق يخارجها، والمخارجة هنا تمايز أخلاقي وقيمي بالأساس، إذ أمامنا تحدي إبداع نموذج تنموي متجدد مفتوح على المستقبل، فالحداثة تجديد لا تقليد، وأن يكون المرء "حداثيا" معناه ألا يقلد في شيء من أمره، وإلا انقلب إلى "مقلد". وبناء النهضة يتأسس على قاعدة الحضارة وليس منتجاتها، فالإنسان حامل الفكر والمعرفة والقيم هو أساس النهضة المنطلقة من النسق الفكري والثقافي الكامن في المجتمع.
إضافة إلى ذلك، فإن المجتمعات تتطور وتتشكل بطريقة سريعة تجعلها أكثر تعقيداـ وبالتالي تستدعي آليات عمل ومناهج أكثر نجاعة وتطوراً، مما تتحول معه عملية صنع السياسات العمومية في اتجاه إجراءات تنظيمية متطورة للغاية.
ومحاولة منا لتقديم بعض الخطوات المساعدة على وضع النموذج التنموي الجديديتمحور أساسا حول أربعة توجهات:
على المستوى المؤسساتي: تقوية أسس وقواعد الديمقراطية التمثيلية والتشاركية ، بوصفها النموذج الأمثل للتدبير المستقبلي للمجتمع، وشكلا من أشكال الحكامة المسؤولة تجمع بشكل منسجم بين المشاركة ونجاعة السياسات العمومية، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
على المستوى الاقتصادي والاجتماعي: إعادة الاعتبار لدور ومكانة المقاولة، وإعادة رسم وظائف الدولة، والاهتمام أكثر بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني باعتباره إطارا لترشيد عوامل الإنتاج والاستعمال الأمثل للثروات المنتجة، ولتوزيع أكثر إنصافا لهذه الثروات بين الفئات الاجتماعية والمجالات الترابية والجنسين والفئات العمرية. نظرا لخصوصية النشاطات الاقتصادية، وآثارها السلبية على البيئة، وثبوت قصور أداء الإدارة بوسائلها الكلاسيكية في ضبط الحركة الاقتصادية ضمن أهداف بيئية، من الضروري اعتماد الاقتصاد البيئي ، لتكملة النقص والعجز الذي آلت إليه التوسائل التنظمية المعدة لمكافحة التلوث والتقليل منه.
على المستوى البيئي: مراعاة الأبعاد المرتبطة بالتغيرات المناخية، ومن خلال وضع أنماط إنتاج وتنظيم اجتماعي مبنية على قواعد تنمية مستدامة تستحضر مصالح الأجيال القادمة، وتضمن استدامة الأنساق البيئية الطبيعية والتنوع البيولوجي وحماية التراث الحيواني والنباتي والمحافظة عليه في مختلف المناطق.
على مستوى طبيعة النمو ونمطه: التركيز أساسا على الرأسمال اللامادي وخاصة الرأسمال البشري، وعلى الثقافة والقيم وتدبير الحقل الديني، نظرا لأهميته الأساسية ودوره في بناء نماذج تنموية منسجمة مع الخصوصيات التاريخية والحضارية، بهدف التوفيق بين درجة النمو ونوعيته، ومستوى التنمية وطبيعتها.
وإذا كان علينا أن نختار استراتيجيات اقتصادية للبيئة الطبيعية. يجب أن نبدأ بالتعرف على القيمة الاقتصادية الموجودة هناك بالفعل. يتمثل الاعتراف الأول في أنه في النهاية، ليس هناك رأس مال إلا ما تملكه الطبيعة، فرأس المال الشمسي-أي الطاقة المستمدة من الشمس، بجميع أشكالها- والمال الأرضي، من أحياء وغير الأحياء، يزودنا بكل ما نحتاج إليه. هذه بالفعل هي الأنظمة التي نعتمد عليها، وليس لنا مصدر آخر للثروة أو مدخل إلى الحياة.
إن تضافر جميع الجهود يهدف إلى بناء مغرب يكون بمثابة » مصنع أخضر« على الصعيد الإقليمي، ذي صناعة متصلة ودينامية وتضامنية ومدمِجة. ومن شأن هذه المقاربة، التي تشكل كلاً متجانساً وغير قابل للتجزيء، أن تساهم في إعادة بناء الثقة والشفافية، من خلال تشجيع ومأسسة حوار مستدام ومسؤول. وإن الغاية المثلى هي تحسين مستوى عيش المواطنين، نساءً ورجالاً، في كل جهات المملكة، من خلال نمو أكثر اطراداً وتقاسمٍ أكثر إنصافاً لمنافع النمو. ومن هذا المنطلق، المنبثقة عنها موضوع نقاش وطني بين جميع الفاعلين والمفكرين؛ نقاش مفتوح وجريء، مسؤول وتشاركي على نطاق واسع. وباعتبار أن مشاكل البيئة كثيرة ومتنوعة، سواء في طبيعتها، أو أسبابها، أو بعدها التاريخي، أو مكانها وتموقعها الجغرافي، أو آثارها الراهنة والمتوقعة. ومن الواضح أنه ليس من المفيد ولا من الممكن التصدي لها جميعا في الوقت نفسه. وهو ما يتطلب إجراء خطط عمل من أجل حماية البيئة وتثمينها على مستويين:
الأول: يعالج الأمر عن طريق صياغة برامج ومخططات قصيرة المدى، تعالج القضايا ذات الطبيعة الملحة، لتحقيق وثيرة أسرع وأبعاد أكثر عمقا في مواصلة تثمين وحماية البيئة.
أما الثاني: فيتمثل في إعداد مخططات أخرى تجري على أطر زمنية أطول. متزامنة مع المخططات القصيرة، وتعالج القضايا التي تحتاج جهدا دؤوب لفترات زمنية طويلة سعيا إلى تحقيق نجاح ملموس ومستدام في أحوال البيئة. ولا يتحقق ذلك إلى إذا اتجه النموذج نحو:
1- ترتيب أولويات العمل على أساس علمي رصين، يفهم من خلاله طبيعة المشكلة وأسبابها، وظروفها، وتطورها مع مرور الوقت وتحليل كل المحاولات السابقة لمعالجتها.
2- العمل على وقف كل أسباب التدهور البيئي قبل التوجه نحو معالجة أثاره
3- تعزيز القدرات لتطبيق أدوات الاقتصاد البيئي والاقتصاد الأخضر.
4- اعتماد إستراتيجية» الإنتاج الأنظف «
5- تحقيق المزيد من المشاركة المواطنة والشعبية في برامج ومشاريع ومخططات وإجراءات حماية البيئة.
6- استحضار شرط الاستدامة تلبية لحاجيات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة في تلبية حاجياتها.
وأمام هذه التحديات كلها لا محيد عن اعتماد استراتيجيات ابتكار وبحث علمي متواصل، وتجديد دائم للكفاءات، وانخراط في يقظة إستراتيجية وتكنولوجية دائمة والتدبير التشاركي لمواكبة الواقع لتتمكن من كسب رهان ندرة الموارد بأنواعها الثلاثة، أولها ندرة الموارد الطبيعية كالماء والطاقة والأراضي الزراعية وأراضي الرعي والغابات والثروة السمكية، نتيجة التقلبات المناخية، والاستغلال المفرط لكل الموارد من طرف مقاولات وجماعات ترابية ودول لا تكترث كثيرا بالقضايا المرتبطة بالمحافظة على الموارد الطبيعية ولا بمصلحة الأجيال المقبلة.
فيما النوع الثاني يتمثل في ندرة المواد المالية لدعم النمو والاستجابة لمستلزمات التضامن، ومرد هذه الندرة، المتفاوتة درجاتها حسب الدول، ولكنها تهم الاقتصاد العالمي بمختلف مكوناته، إلى سيادة منطق المضاربة المرتبطة ببعض الشركات العالمية الكبرى، عوض منطق الإنتاج.
أما النوع الثالث من الندرة، فهو دون شك أكثرها "خطرا" في الموارد البشرية من حيث التوافق بين الجودة والكفاءة الإبداعية وطبيعة التحديات التي تواجهها اقتصاديات ومجتمعات القرن الواحد والعشرين.
ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الأنواع من الندرة إلى إضعاف الدول والحد من قدرات اقتصادياتها وخلق مناخ حقيقي من انعدام الأمن والاستقرار.
ختاما يشكل تسيير البيئة وتدبير أمورها وإدراجها ضمن النموذج التنموي أحد المهام الكبرى التي يجب على جميع الفاعلين عبر تقديم مذكرات تنموية تستحضر البعد البيئي وتضعه ضمن أولوية أولوياتها،بل يتطلب أيضا إيجاد توازن بين مختلف المصالح الاقتصادية والبيئية لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود قوامه الاستدامة والاستعمال الرشيد للموارد وتحقيق تنسيق وثيق للسياسات بين كافة المؤسسات المعنية بحماية البيئة.وإعمال المدخل التشاركي للتنمية، ويتعلق الأمر بالبعد التشاركي في تفعيل العمل التنموي. لأن الملاحظ في ما سبق، أن هذا البعد لم يكن حاضرا في أغلب السياسات المنجزة أو على الأقل لم يتم تفعيله. ذلك أن عدم إشراك المواطنين في المشاريع التنموية التي تعنيهم بالدرجة الأولى جعل كثيرا منها غير مكتمل، أو اتضح فيما بعد أنها لا تناسب الحاجيات الحقيقية للمعنيين بها.
وعلى هدى مما جاء في أجزاء سابقة من هذا البحث المتواضع لواقع الرؤية البيئية ضمن النموذج التنموي المستدام، وأمام ضعف الموارد أو قابليتها للنضوب، وفي ظل تعاظم الحاجيات وتعقدها، أصبح لزاما البحث عن سبل جديدة للتدبير العمومي تنبني على التعبئة الرشيدة للموارد وتوجيهها إلى منافذ ذات عائد مستدام، وبناء عليه سأحاول تقديم عدد من المقترحات والمقاربات وملامح الرؤية البيئية ضمن النموذج التنموي المستدام للمرحلة القادمة:
- تعرف الترسانة القانونية في المغرب بكونها ترسانة تضم أكثر من 1000 نص قانوني خاص بالبيئة، وهو ما يستدعي العمل على تجويدها لتتماشى مع التطورات والتحولات التي يعرفها المجتمع، والعمل على تجميعها في إطار مدونة بيئية شاملة وملزمة، إذ أن أهمية القاعدة القانونية تتجلى في إلزاميتها وارتباطها بالجزاء. الأمر الذي يستدعي كذلك اعتماد قضاء متخصص اعتبارا للمكانة المتميزة التي يحتلها في أي نظام رقابي، بالنظر لموقعه وقوته كسلطة مستقلة. وهو ما سيجعله وسيلة مهمة لحماية البيئة من كل الأضرار المحتملة.
وإن تدعيم الإطار القانوني المتعلق بحماية البيئة يستلزم بذل مجهود تشرعي يصبو إلى تجاوز الثغرات والنقائص التي تكتنف التشريع البيئي القائم، والتي تجعله متسما بالطابع التقني والتقادم والتشتت والتجزيء، مما يحد من فعالية الوسائل القانونية في مجال المحافظة على البيئة، إذ يقتضي تحيين المقتضيات القانونية المرتبطة بالبيئة، فضلا عن إعمال المقترب الشمولي عند التأطير القانوني لمجالات البيئة، وبالابتعاد بالتالي عن المقاربة التجزيئية والقطاعية التي تهيمن على مضمون التشريع البيئي لصالح مقاربة شمولية مندمجة، تجعل من البيئة مجموعة من المجالات المنسجمة والمتماسكة والموحدة من أجل ضمان التوازن بين أمرين يظهران أحيانا متكاملين: المحافظة على البيئة بالنسبة للأجيال الحالية والمستقبلية ومتابعة التنمية الاقتصادية قصد تعزيز الأمن البيئي، مع الانتقال بالمجالات البيئية من مرحلة الرغبة في التقنين إلى النية في التطبيق.
- ومن المعلوم أن حماية البيئة في المغرب مرت بمحطات مختلفة كان أبرزها إحداث وزارة البيئة سنة 1995 وهي المرة الأولى والأخيرة، ومنذ ذلك التاريخ ظلت البيئة بدون وزارة مختصة، والمطلب الأساسي مستقبلا مع اعتماد النموذج التنموي الجديد ومن أجل ضمان حضور قوي للبيئة في كل مراحله يتعين إدراج وزارة للبيئة ضمن الهندسة الوزارية المقبلة لتسهر على التنسيق المباشر وتتبع القضايا والملفات البيئية على الصعيد الوطني والترابي.
- الاهتمام الفعلي بالتربية على البيئة للمساهمة تنمية وعي المواطنين بحقوقهم البيئية، وانخراط كافة فئات المجتمع المغربي في تنزيل الرؤية البيئية انطلاقا من الاستراتيجيات المعتمدة للتنمية المستدامة، على اعتبار أن التربية هي المدخل الرئيسي كما قال الفيلسوف إمانويل كانط " ان الانسان لا يصبح انسانا إلا بالتربية".
- تعزيز دور فعاليات المجتمع المدني باعتبارها الأمل الأفضل بالنسبة إلى مستقبل الأرض وحماية البيئة، لما لدورها الفعال في الملاحظة والابلاغ عن، ومعارضة التدهور البيئي، ولكونها المتحدث باسم جمهور لايمكنه التحدث بالاصالة عن نفسه (المقصود هنا الاجيال التي لم تولد بعد) والارض نفسها، وتمكينه من آليات الدفاع أمام القضاء عن القضايا البيئية.
- التفكير الفعلي لاعتماد وفرض ضرائب من أجل حماية البيئة، كما يجب التفكير كذلك في مقاربات تحفيزية إيجابية، بهدف تشجيع الأنشطة التي تحمي البيئة من خلال إقرار اعفاءات في الحالات التي يتجه فيها إلى اعتماد تقنيات ومبادرات أقل تلويثا للبيئة.
- الرفع من الميزانية المخصصة لقطاع البيئة، من أجل تحقيق تنمية متكاملة ومستدامة.
- ضمان شروط ومقومات العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات.
- جعل التزامات المغرب في مجال التنمية المستدامة رافعة للإقلاع.
- ضمان شروط إنجاح ورش الجهوية المتقدمة.
- تسريع استكمال الإطار المؤسساتي والقانوني والتنظيمي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
ومما لا شك فيه سيساهم ذلك كله في بناء مغربٍ مزدهر يضمن مقومات جودة الحياة للجميع، ويتيح للمواطنات والمواطنين فرص استثمار مؤهلاتهم وطاقاتهم الإبداعية وتحسين مستوى عيشهم، مغرب منصف يستمد قوته وفخره من تاريخه وحضارته ومؤسساته وقيمه، ويشق طريقه بخطى واثقة في قارته الإفريقية.
وإن الغاية من التنمية لا يمكن أن تتجلى سوى في تحقيق رفاه المواطنين، وتحسين ظروفهم المعيشية، كما لا يمكنها أن تتحقق دون أن تضع في الاعتبار الأجيال القادمة.
ختاما تظل كل المقترحات والمذكرات المؤسساتية والحزبية والمدنية والأكاديمية رهينة بمدى تفاعل اللجنة الخاصة بإعداد تصور مشروع النموذج التنموي في إعمال الرؤية البيئية ضمن هذا النموذج والمكانة التي سيتبوؤها.
مراجع البحث
1) رضوان زهرو- نموذجنا التنموي من أجل تعاقد جديد- منشورات مسالك في الفكر والسياسة والاقتصاد- مطبعة النجاح الجديدة(CTP) –الدار البيضاء-2019
2) الموسوعة العلمية الملونة- دار الفكر اللبناني- 2000.
3) عبد القادر مهندس الفقي، البيئة: مشاكلها وقضاياها وحمايتها من التلوث، مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع، 1995.
4) عبد المجيد عمر النجار- قضايا البيئة من منظور إسلامي- مركز البحوث والدراسات- الطبعة الثانية 2004.
5) أحمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع- الهيئة المصرية للكتاب-القاهرة- 1979.
6) أبو الفضل جمال الدين ابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري، ''معجم لسان العرب"، منتدى الكتاب الالكتروني الإسلامي، الجزء السابع، المطبعة العبرية ببولاق مصر، ط1، سنة 1303هـ،
7) توماس (ميل)، البيئة وأثرها على الحياة الإنسانية، ترجمة زكي البرادعي، دار الوعي القومي،القاهرة، طبعة 1979،
8) مؤنسي محي الدين (محمد) " البيئة في القانون الجنائي "، دراسة مقارنة 1995,
9) الفقي(محمد عبد القادر)، (1999) البيئة.. مشاكلها وقضاياها وحمايتها من التلوث (سلسلة مكتبة الأسرة). الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
10) إدريس (الكراوي)، التنمية نهاية نموذج؟، الطبعة الأولى 2018، المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء، المغرب.
11) شعبان (سمير)، بولقواس (سناء)، إشكالية الملاءمة بين القوانين الوطنية البيئية والقوانين الدولية البيئية(دراسة مقارنة بين الجزائر والمغرب)،الإنسان والبيئة.. مقاربات دينامية لدرء مخاطر التغيرات المناخية.الطبعة الأولى 2018.
12) المهدي (المنجرة)، قيمة القيم، المركز الثقافي العربي الطبعة الخامسة 2013.
13) محمد عابد (الجابري)، المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية يونيو 2000.
14) د-م. يحيىوزيري- العمارة الإسلامية والبيئة، الروافد التي شكلت التعمير الإسلامي- عالم المعرفة- عدد 304 يونيو 2004
15) دليل مرجعي للإعلاميين البيئيين في المجال البيئي- المملكة المغربية- كتابة الدولة لدى وزير إعداد التراب الوطني والماء والبيئة- المكلفة بالبيئة سنة 2004
16) حسنة (كجي) وسعيد خمري، "الإعلام البيئي، قضايا وإشكاليات"، المجلة المغربية للسياسات العمومية REMAPP بمساهمة مؤسسة فريديريش نومان، العدد 4، ربيع 2009،
17) هشام المكي- سؤال التنمية في الوطن العربي.. مداخل علمية ورؤى نقدية- مركز نماء للبحث والدراسات – الطبعة الأولى، بيروت 2014.
18) إبراهيم، حازم (1985) الخواطر القرآنية وشمولية الحصر، مجلة عالم البناء: عدد يوليو- أغسطس ، القاهرة.